Saturday, December 9, 2006

مكنسة التغيير


في حي ضيق

في زقاق قديم

تقف البيوت و قد أثقلتها السنون
شبابيكها المتهالكة تطل على الأزقة الطينية المتسخة
و الناس كل في حاله و إلى معاشه
ذهب الجيل القديم العريق
و احتل المستثمرون هذه المناطق الأثرية
و حولوها إلى دور للإيجار الرخيص دون مداراة أو مبالاة
وفي غرفة ضيقة في سقف بيت ضيق قديم... سكنت سناء
طالبة جامعية يعيش أهلها في الريف البعيد، أتت هنا كي تكمل دراستها و لا يستطيع حال أبوها المتواضع أن يتحمل دور المدينة الفاخرة
و ههذا حال سناء في غرفتها الخانقة تشارك الحشرات السكن، تذهب كل يوم إلى الجامعة و تعود إلى غرفتها لتخرج مرة أخرى في اليوم التالي
كانت سناء لطيفة مسالمة علاقتها طيبة مع الجميع لكنها لم تكن تتجرأ أن تدعو إحداهن لغرفتها خوفا من الإحراج... حتى جاء ذلك اليوم الذي فاجأتها فيه زميلتها عائشة:
- صديقتي سناء
- نعم يا عائشة
- هل لي أن أسألك شيئا
- أي شيء تفضلي.. محاضرة... واجب... درس... أي شيء تحت أمرك

- هل من الممكن أن أنام عندك الليلة؟!
بلعت سناء ريقها و قبل أن تستوعب الصدمة استدركت عائشة:
- أرجوك، إن زميلتي في الغرفة مريضة و ستقضي الليلة في بيت أهلها و أنا أخاف أن أنام وحدي... قلت أتسلى معك!
بدى التردد و التوتر على وجه سناء و ردت و الخجل يملأ كلامها:
- بصراحة يا عائشة أنا غرفتي صغيرة و (مش أد المكان)
ردت عائشة بثقة:
الغرفة بأصحابها لا بحجمها يا سناء... سعة صدرك تكفيني، أنا أحبك و لن أرتاح إلا معك

تلعثمت سناء: شكرا للباقتك يا عائشة
قفزت عائشة فرحة: رااااااائع، يعني أنت موافقة، سأحضر أغراضي و أعود، و ذهبت راكضة!
جلست سناء تضرب أخماساً بأسداس و الحيرة و القلق أخذا منها كل مأخذ و لم تفق من شكرتها إلا على صوت عائشة صارخة: هيا هيا يا سناء سيفوتنا الباص أسرعي
و في الطريق إلى حي الحوانيت حيث تسكن سناء كانت عائشة فرحة و تتكلم و تخطط و تضحك، كانت منفتحة مشرقة كعاتها و لكن سناء كانت في وادي آخر...
استجمعت سناء قوتها و تكلمت بصراحة:
- عائشة
- نعم يا سناء
- يجب أن أصارحك أمراً
- خير؟
- هل سمعت بحي الحوانيت
- نعم، أظن هو المكان الذي يسكن فيه العمال و الشحاذون و

- نعم نعم أنا أسكن هناك أيضاً
- ردت عائشة باستغراب: حقا؟! لم أكن أعرف أن هناك طلبة أيضاً!
- لا يوجد طلبة... أنا أسكن هناك لأن والدي لا يستطيع أن يتحمل مصاريف الجامعة
- آه فهمت... لكن هذا لا ينقص من قدرك يا سناء... أنت خلوقة و متفوقة و ممتازة
- شكراً... لكن أرجو أن تفهمي أن المكان لا يليق بك... أنت ابنة خير
- عيب هذا الكلام يا سناء... كلنا فقراء إلى الله... أنا أحبك لشخصك و لا يهمني إلا أخلاقك الطيبة
- شكراً، قالتها سناء و هي تقول في نفسها ( انتظري حتى تري المكان!)
وصل الباص... نزلت سناء و عائشة في محطة الباص المليئة بالأوساخ... مشتا في الزقاق الطيني القذر صامتين... الأوساخ في كل مكان... الأطفال هنا و هناك يركضون و يصرخون... هذه سيدة تنشر الغسيل على السطح و تعصر الملابس على المارين!
رجل طاعن في السن عند باب بيته و الدخان في يده يملأ المكان، يناظر الماشين و يعلق عليهم، فتاة أخرجت رأسها من الشباك لتكلم صاحبتها في البيت المقابل دون خصوصية أو احترام لأحد، عالم مزدحم صخب بسيط.. لم تعرفه عائشة من قبل، و صدمت لترى صديقتها تعيشه

دخلتا غرفة سناء المتواضعة... كانت نظيفة بسيطة، تكلمت سناء:
- تفضلي و عذرً
- سناء
- نعم يا عائشة؟ ... أرجوك لا تقولي شيئا يجرحني...
- التغيير
- ماذا؟
- لا بد من التغيير... نظفي المكان!
- إن بيتي نظيف...
- أقصد الشارع
- عائشة أرجوك.. كفاك أحلاماً
- لا ليست أحلاماً بل واقع!
- ضحكت سناء و تمتمت: بل أغنية حالمة!
- اسمعيني الموضوع سهل جداً، أين مكنستك؟
- هه؟ ماذا؟ ماذا تفعلين؟
- أبحث عن المكنسة... و تناولت عائشة المكنسة و بعض الأكياس و خرجت... سناء تركض خلفها و هي تناديها: تعالي يا مجنونة... إلى أين تذهبين؟
- سأكنس الشارع!
و فعلا مسكت عائشة المكنسة و بدأت تكنس الشارع و تجمع الأوساخ المرمية... تجمع حولها الأطفال ليشاهدوا هذه الظاهرة الغريبة... و سناء تغطي وجهها خجلة!
صرخت عائشة: يا أطفال... ما رأيكم أن نلعب لعبة، و الفائز أعطيه قالب شوكولاتة كامل!
ثار الأطفال و تحمسوا بشدة، وزعت عائشة الأكياس عليهم: هيا الفائز من يجمع أكبر عدد من الأوساخ.
و لم تغب شمس النهار إلا على غبار مكنسة عائشة!
و في صباح اليوم التالي... و عند خروجها للجامعة... شاهدت عائشة سيدة ترمي القمامة في الشارع فتوجهت لها مسرعة متجاهلة نداءات سناء اليائسة:
- سيدتي سيدتي من فضلك
- يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم... خير؟
- الخير في وجهك الحلو و صباحك الأنور... ممنوع أن ترمي القمامة هنا
- من قال؟ طول عمري أرميها هنا
- الحكومة؟
- يا ويلي الحكومة؟
- نعم... يجب أن ترميها في المكب هناك و إلا أخذت مخالفة
- يعني ماذا؟
- يعني شيء سيء جداً
- لالالا اللهم يا كافي، لكن المكب بعيد
- حسناً سآخذها لك بنصف جنيه
- ربع جنيه
- علشان خاطرك ربع جنيه
- ربنا يفتح عليك يا بنتي
سناء منصدمة!
و عائشة تبتسم و تقول: تعالي العزومة علي! و في طريقهما إلى الجامعة و ضعت عائشة يدها على كتف سناء و بكل عاطفة اتجهت إليها قائلة: التغيير مطلب و ضرورة، خاصة في المجتمعات الفاسدة، و هذه وظيفتنا نحن الشباب المسلم الفاهم، يجب أن نحدث أثرا طيبا أينما ذهبنا و حيثما كنا، و إلا ما الفرق بين وجودنا و عدمه؟!
تأثرت سناء جدا بكلام عائشة، كلام القلب لا يصل إلا إلى القلب...
و سارت على خطاها...
كانت تغيب الشمس على سناء بين اليوم و الآخر، و كانت تحمل أكياس القمامة و ترميها بالمكب الخاص بربع جنيه...
النظافة من الإيمان... و الإيمان حب و رحمة...
و تحول حي الحوانيت إلى حي نظيف مسالم... و انتقلت النظافة إلى القلوب...
لم تخجل سناء من أن تدعو أحدا إليه خاصة بعد أن أجرت غرفة أكبر و أجمل من مدخول ( الربع جنيه)... و بعد أن انتقلت عائشة و شاركتها الغرفة!
بقي أن أقول: كم من الأوساخ التي نعيش حواليها، قد لا نلمسها بل نحسها، و نقولها و نسمعها، أوساخ القلوب و قذارات اللسان، و كل نحن بحاجة إلى التغيير فينا و من حولنا بكلمة صالحة و ابتسامة لطيفة، لنرى ( ربع جنيه) رباني من الأجر الوافر علنا نحصد به
غرفة أكبر في الجنة إن شاء الله


-


بقلم مريم الرحماني

3 comments:

Anonymous said...

فعلاً نحن بحاجة لتلك القرارات التي تغير و تقوّم مسير حياتنــا ..نعم نحن بأمس الحاجة لذلك القرار الفعال الذي يُؤخذ بقناعة وينفذ على الحال دون تسويف وتأخيير .. فالحياة تنتظر منا الكثير ..
وليكن شعارنــا دعوتي هي مهنتي ..

Anonymous said...

»» BaReeQ «« ..
جزاكم الله خير على هذة القصه المعبرة :) ..
إذا أراد الإنسان التغير يجب عليه أن يبدأ بنفسه أولا ولا يعيب المكان الذي فينه فإنه جزء من هذا المكان ..
نعيب زماننا والعيب فينا .. وما لزماننا عيب سوانا !!

HaMaSaT said...

مروجية
جزاك خيرا على المشاركة الطيبة والكلمات الرائعة ..
فعلا التغيير يأتي من القلة

بريق
أجمعين .. شكرا على التعليق
صدقت .. التغيير يبدأ من الداخل